رحلة آلام البطل الباحث عن أبي نواس!
الكبت النفسي حيلته الدفاعية
جاء عنوان قصة الكاتب الدكتور محمد عبدالحليم غنيم: “أين أنت يا أبا نواس؟”، المنشورة في مجلة أوراق ثقافية العدد الثاني 2019، ص65، إقليم شرق الدلتا الثقافي، من حيث الجدة والتركيب والابتكار والعلاقة بينه وبين مضمون القصة وأدواتها من (زمان ومكان وشخصية)، واتفاقه مع الجو النفسي العام للقصة، فالبطل الراوي يحكي رحلته للقاهرة آتيًا من بلده الريفية إلى الجامعة، ثم الخروج منها إلى منزل أستاذه ليطلع على إحدى الرسائل العلمية الأكاديمية التي تتناول أبا نواس بالدراسة، حاملًا بطاقات بحوث كرتونية، ثم الخروج مرة ثانية يبحث بين المواصلات على شيء يقله مرة أخرى خارج القاهرة من حدودها الشرقية، مما يدل على أن هذا الدارس من أبناء محافظة الشرقية.
بدأت القصة بقوله: (رائحة العرق يفوحها الجسم بتؤدة وصمت، رائحة أعرفها، تشبه رائحة الجنود المتوحدين في الصحراء، تذكرني بأيام الجندية)، وتأتي أهمية جملة الابتداء بالقصة بأنها تقود القارئ إلى الإقبال على القصة أو النفور منها، وقد تكون دليلًا للحكم على أسلوب الكاتب ومنهجه.
ونبه “فيليب هامون” لكون الشخصية ليست حصرًا ذات مفهوم أدبي، أو شكل إنساني، فالأواني في المطبخ – على سبيل المثال – قد تكون في رواية ما شخصيات، وهنا البطل الباحث الراوي يبحث عن “أبي نواس”، ليس في الحقيقة، بل في الدراسات والأطروحات العلمية في مكتبة الكلية التي يدرس فيها دراساته العليا، أو في مكتبة مشرفه الخاصة بالبيت بالقاهرة؛ لأن أبا نواس من أشهر شعراء عصر الدولة العباسية، ومن كبار شعراء شعر الثورة التجديدية، وُلد في الأهواز سنة 145ه/762م، ونشأ في البصرة، ثم انتقل إلى بغداد، واتصل بالبرامكة وآل الربيع ومدحهم، واتصل بـالرشيد والأمين، وقد توفي في بغداد سنة 199ه/813م.
كلما قرأنا النص، تولد لدينا انطباع بنمو الشخصية وتضخم موقعها، وهذا ما يُطلقُ عليه (تأثير الشخصية)، فالبطل الراوي في قصة “أين أنت يا أبا نواس؟”، صحيح نزل القاهرة لكي يقابل مشرفه على رسالته العلمية، بحثًا عن شخصية الشاعر موضوع أطروحته، ولكنه بكاميرا عينه في الشعور وما يخفيه في نفسيته في اللاشعور، ظل طوال القصة يرصد ويسجل ويصف العربات الفخمة والعمارة الأفخم، والخادمة السمراء، والمقعد الهزاز، وأثاث البيت، وأذنه مع كل ما يحدث بالمنزل ممن ينادي على من، ويتحدث بالتليفون، ومن يتحرك، ومن يجلس، حتى أنفه نالت هي الأخرى حظها: (وكانت الساعة قد اقتربت من الثانية ظهرًا، هل كنت أشعر بالجوع؟ كانت رائحة شيء يقلى آتية من المطبخ، تذكرت أمي وهي تقلي الباذنجان في الزيت، ولكن هذا ليس باذنجانًا، ما هذا؟).
الصورة الفيزيائية (الجسمية) للبطل وتفسير وصف المؤلف لها:
ونلحظ الراوي وهو يصف شخصية البطل (الباحث) وصفًا خارجيًّا بقوله:
(فأقول لنفسي، كان لا بد من أن أستحم بماء الورد لأزيل هذه الرائحة)؛ يقصد هنا رائحة العرق، بسبب رؤيته للفتيات الجميلات بالشوارع.
(بيد أنها جلست في مقعد كبير، على مقربة مني وجلست أنا بجوار النافذة فوق مقعد هزاز، تصورت في البدء أنه سيكون مريحًا، آه، ما زلت أشعر بآلام في ظهري)، يتضح أنه يعاني من آلام بالعمود الفقري، وهو يُحدِّث نفسه أنه جالس على كرسي بجوار ابنة أستاذه الجميلة، وكأن جميع أوجاع جسده ظهرت عليه فجأة عندما رأى أفراد الأسرة التي حل عليهم ضيفًا في صالة شقتهم لمدة لا تزيد عن الساعة.
وفي موضع تالٍ بالقصة ذكر الراوي وجع الظهر، ولكن في تلك المرة جاء أستاذه ليجلس على كرسي بالقرب منه على نفس المنضدة: (هل كنت أشعر بالقلق؟ لا أعتقد، إنه ظهري الذي يؤلمني، المقعد غير مريح، هل أستطيع أن أنفصل عن هذا المكان؟ جاء مضيفي وجلس خلف المنضدة، فصار في مواجهتي تمامًا، قال: إزي الحال… هل أعجبتك؟)، فهو كان يسأله عن الرسالة العلمية الأكاديمية الخاصة بأبي نواس.
الأمراض الجسدية التي يسببها الكبت النفسي: أثبتت الدراسات أن الكبت النفسي أحد أهم العوامل المساعدة على تشكل الأمراض العضوية العصرية؛ مثل: مرض الضغط، والسكري، وأمراض القلب والقولون العصبي، والصداع، وصعوبات التنفس، والتهابات المعدة، وهنا في حالة بطل قصة “أين أنت يا أبا نواس؟” آلام في عظام الظهر والأسنان، مصحوبة بعرق شديد يفوح من جسده.
الصورة النفسية التي رسمها المؤلف للبطل:
يقدم د. محمد عبدالحليم غنيم بطله متمثلًا في شخصية الفلاح المتعلم بحساسية عالية، ومشاعر نفسية مرهفة، يفهم تفسير الكلام ولغة الجسد؛ فيقول على لسان الراوي متحدثًا بينه وبين نفسه: (لا يا مضيفي العزيز، أنا أقرأ جيدًا ما خلف الكلمات، إنها حرفتي، صوتك مختنق، وذهنك بليد، وزوجتك وابنتك جميلتان، وأنا فلاح وعيناي رصاصتان من جوع وشبق، الظهر أبيض، وفي الصدر شق مبهم يحتوي حرماني المقهور، كان لا بد أن أترك الجنة وأنزل، لممت أوراقي، وأومأت برأسي وخرجت، فجأة وجدتني وسط الطريق…)، فبدأت القصة والبطل في شوارع المدينة النظيفة، ثم مبنى الكلية الكبير، ثم شوارع المدينة مرة أخرى، ثم شقة الدكتور بالعمارة الفخمة، وانتهت القصة وهو في وسط الطريق وحوله: (البنايات من حولي شامخة ساكنة، ترقب حيرتي، بينما الأطفال أمامها وفي أعلى الشرفات يصخبون ويلعبون)، يشعر مريض الكبت النفسي بمشاعر الخوف والقلق الدائم، فهو غير مستقر من الداخل، ويميل إلى الحساسية الزائدة والعصبية المبالغ فيها على أتفه الأسباب، وذلك لأن الوعاء الداخلي خاصته لا يفرغ، لذا يسلك سلوكيات غير سوية في تعاطيه مع الآخرين، فتجده يميل إلى النفاق الاجتماعي، وعدم الإفصاح عن نواياه الحقيقية؛ خوفًا من خسارة من هم حوله، ورغبة في تعزيز صورته الاجتماعية، دون الاكتراث بذاته الداخلية وقِيَمِه: (نحن الآن في الشارع، أسير بجواره وها نحن أمام عربة فخمة، ركبت بجواره واخترقنا شوارع المدينة، ثم بدأ يتكلم ويتكلم، فقط من آن لآخر كنت أعلق بكلمات قليلة، لم أكن منتبهًا كلية له، كانت ما تزال تؤرقني مشاكلي الوجودية الخاصة: هل سأظل كما أنا تفوح مني رائحة العرق وتؤلمني أسناني؟ وما جدوى الكتابة؟)، الكبت عملية غير شعورية، تستبعد الأنا، بموجبها، الحفزات الغريزية، والأفكار، والصراعات، والذكريات المؤلمة، والمثيرة للقلق، والرغبات المستكرهة، من مستوى الوعي، إلى مستوى اللاوعي؛ لأن هذه الأشياء، إذا بقيت في شعور الفرد، مثلت له تهديدًا لذاته، وأشعرته بالذنب، والألم، والتوتر؛ لأنها غير مقبولة اجتماعيًّا: (كان لا بد أن يستمر في الكلام، وكان لا بد أن يعلق أيضًا: فهمت! فأقول: نعم، ولكن يا صديقي كيف تتكون العربات الفخمة؟ وما المنهج العلمي الذي يجب أن يستخدمه المرء ليحصل عليها أو على واحدة منها؟)؛ فالكبت في حالة البطل الراوي بقصة “أين أنت يا أبا نواس؟” من النوع الإيجابي فيتمثَّل بالتعبير عن مكنونات النفس عبر الكتابة والخطابة والإبداع الفني بشتى أنواعه، والاندماج في المجتمع، والتظاهر السلمي.
لقراءة المزيد من المقالات اضغط هنا
بقلم
الكاتب والباحث/ محمود سلامه الهايشه