“A psychoanalytic study”

الهارب كرواية وكقصة ما بين الدولار الأمريكي لروبرت بيرنز والخمسة صاغ المصرية لمحمد عبدالله الهادي!!

“دراسة تحليلية نفسية”

لا يُدرك اللاشعور الفواصل الزمنية، ويرى أن الماضي والحاضر شيء واحدٌ، ولعلَّ خير مثال لذلك ما يحدث في الأحلام من استعادة الماضي كما لو كان حاضرًا، يحكي الكاتب المصري “محمد عبدالله الهادي” بقصته “الهارب”، كيف أثرت رواية “الهارب” للكاتب الأمريكي ( روبرت بيرنز ) وترجمها للعربية عمر عبدالعزيز أمين، وصدرت عن سلسلة “روايات مصرية للجيب، في هذا الطفل الذي ابتاعها من بائع برصيف محطة سكك حديد مصر برمسيس، فقد وقع هذا الولد الصغير “حسونة” الذي لم يبلغ الحُلم في شرك الرواية وسحرها، “حسونة” ابن محافظة الشرقية؛ لأنه ركب القطار مع والده للقاهرة من محطة سكك حديد الزقازيق، وأحد جدوده من صان الحجر.

وأثناء الخناقة والمشادة الكلامية التي حدثت بين حسونة وأبيه داخل الأتوبيس بالقاهرة المزدحم جدًّا بالركاب، وبين المرأة التي وصفها الكاتب على لسان البطل الراوي من فوقها إلى تحت، بالطبع “سيدة الأتوبيس” هي العنصر النسائي الوحيد بالقصة، وكأن الكاتب يأبى أن تخرج قصته دون بطلة، فهو يكتب بعين هذا الصبي، ويصف ما يدور في خاطره، فلم ينسَ البطل الراوي “حسونة” أن يؤكد مدى حبِّه لجده، وحفظه لأحد أقواله وحكمه المأثورة، (فآثرت الصمت ولم ترد عليها، عملًا بحكمة سيدك “إسماعيل”: “يدخل الجنة على حرير مفروش.. من سمع شتمته بودنه وعمل أطروش).

واللاشعور هو المخبأ الذي نُلقي فيه بكل ما يزعجنا ويروعنا من رغبات وأفكار، ونقفل الباب دون هذه الرغبات والأفكار، ونُحكم الإقفال، ثم نقيم العوائق والسدود الإضافية؛ حتى نأمن تسرُّبها إلى ذاكرتنا، فتُصبح نسيًا منسيًّا، لكن هذه الرغبات والأفكار هي رغباتنا نحن وأفكارنا نحن، هي إذًا وثيقة الصلة بحياتنا النفسية، وهذا ما حدث بالفعل في قصة “الهارب” لمحمد عبدالله الهادي، والمنشورة بصفحة 63 من مجلة أوراق ثقافة الصادرة عن إقليم شرق الدلتا الثقافي، العدد الثاني 2019؛ حيث إنه وعلى لسان البطل الراوي للقصة وهو الطفل “حسونة” الذي تذكر حرفيًّا، وحكى لنا الجزء الذي لا ينساه أبدًا منذ طفولته من رواية “الهارب” للسجين الأمريكي “روبرت بيرنز”؛ حيث كان البطل في الرواية هذا المسكين الصغير “مخلوق صغير برئ” الذي اشترى صندوقًا لمسح الأحذية؛ لكي يربح نقودًا ليطعم بها أمه وإخوانه الصغار بشكل يومي، فظل “حسونة” الشرقاوي (ابن محافظة الشرقية) متأثرًا نفسيًّا ومعجبًا بكفاح ذاك الطفل ماسح الأحذية أحد شخصيات الرواية الأمريكية المترجمة للعربية وقرَّائها وهو في عمر الطفولة، ولا بد أننا نمر في حياتنا اليومية مرارًا بما يُشبهها، وهذه الحوادث المشابهة تجد صدًى عميقًا في نفوسنا، وفوق ذلك فإن هذه الرغبات والأفكار لا تقع في مخبئها قانعة، وإنما تتصايح وتُلحُّ وتثور، وتُحاول أن تصل من مجاهل النسيان إلى نور الذاكرة، لكن أصواتها لا تصل إلينا في الغالب، وإذا وصلت فإننا نتجاهَلُها ونتعامى عنها، فنسمعها كما لو كانت آتية من الخارج، أو نراها كما لو كانت غريبة عنا، ونتمادى في هذا التجاهل والتعامي ما وسعنا التمادي.

يأتي عنوان القصة “الهارب” تناصا مع رواية “الهارب” للكاتب الأمريكي “بيرنز”، وليس العنوان فقط هو المقتبس، بل قام الكاتب “محمد عبدالله الهادي” بتقديم ملخص كامل للرواية في أول 20% من قصته، وهو مستخلص يتماشى مع نظرة هذا الصبي الراوي للقصة بمهارة سردية فائقة، وبالطبع هذا الطفل الراوي الآن أصبح رجلًا كبيرة في السن، فالتالي هو يحكي عن نفسه مستخدمًا تكنيك الاسترجاع السردي في القصة؛ مما يدل على أن هذه القصة تعد جزءًا من سيرة ذاتية لشخص ما، سواء أكان هذا الشخص هو المؤلف نفسه أو أحد الشخصيات التي عايشها في مراحل عمره المختلفة، وهو الآن يحكي لنا كيف كانت نشأته الثقافية، وكيف تكوَّن وِجدانُه الأدبي، وكيف لشخصية الصبي ماسح الأحذية بطل رواية “الهارب” أن يترك بداخله آثارًا إيجابية في الجهد والكفاح الإنساني، ومما يدل على أن كاتبنا يمتلك قدرة سردية هائلة، تأتي افتتاحية قصته بحوار مباشر، وبهذه البداية: “قال: كم تظن ثمن صندوق لمسح الأحذية يا سيدي؟”، بلا مقدمات طويلة ولا تمهيد سردي، حيث إدخال القارئ في المشهد مباشرة، وبالتالي تقودنا مثل هذه البدايات إلى الإقبال على القصة أو النفور منها، وقد تكون دليلًا للحكم على أسلوب الكاتب ومنهجه الفني في طرح سرديته.

وعندما تصل عزيزي القارئ للثلث الأخير من تلك القصة، تكتشف بأن الكاتب لم يقحم رواية “الهارب” للكاتب الأمريكي “روبرت بيرنز”، ولم يكن اختيار نفس العنوان على القصة كما هو للرواية مصادفة، لا فالرواية ككتاب مادي يمسك به “حسونة” البطل، وبطل الرواية السجين الهارب من وبين المدن الأمريكية الكبرى أبطال، وجزء لا يتجزأ من أحداث قصة “الهارب”، فمن أول القصة إلى آخرها والكاتب يستدعى الرواية كمطبوعة وأماكنها وشخصيتها في تحاور وتعايش وذوبان كامل مع البطل “حسونة” في حركاته وسكناته، وما يسمع وما يرى أثناء ذهابه وإيابه لرحلته للقاهرة مع والده، فهذه القصة مثال حي تطبيقي للتفرقة بين الخبرة والمعرفة؛ حيث إن المعرفة هي أن تتعلم من تجارب الآخرين (حسونة يتعلم من رواية الهارب لروبرت بيرنز بكل تفاصيلها)، بينما الخبرة هي أن تتعلم من تجاربك الشخصية، (تجربة حسونة نفسه مع جده وأبيه في رحلته القاهرية بقصة الهارب)، وبالفعل حدث مزج رائع بين معارف حسونة وبين خبرته برغم حداثة سنه، أماكن زارها بطل راوية “الهارب” بأمريكا (“شتانوجا” و”لويزفيل” و”جورجيا” و”أتلانتا”؟..)، بالمقابل أماكن زارها بطل قصة “الهارب” بمصر (الزقازيق، صان الحجر، ميدان رمسيس، السيدة زينب والحسين).

ولم ينس الكاتب إظهار قيمة حب القراءة والاطلاع وتنميتها لدى الأبناء، وليس مجرد تعلم الكتابة والقراءة وفقط، بل القراءة الحرة في كافة مناحي الحياة لإخراج رجل وامرأة مثقفين للمجتمع، والدليل على ذلك داخل قصة “الهارب” لمحمد عبد الله الهادي، هي الإجابة على سؤال كيف لصبي ريفي من خمسينيات القرن العشرين لم يبلغ الحُلم أن يشتري رواية أمريكية مترجمة ويقرأها ويفهمها، وترسخ في اللاوعي (اللاشعور)، ويستدعي مع كل موقف يمر به في حياته أحد أبطالها، ويتذكر كيف تصرَّف هذا البطل أو ذاك مثل هذا الموقف؟! وإخراجه في الوعي (الشعور)، وقد أجاب الكاتب على هذا التساؤل في موضعين داخل القصة:

الأول: يصف فيه “حسونة” نفسه: (.. وصوتك الذي تردد به ما حفظته ذاكرتك من جزء “عم و”تبارك” و”قد سمع”، وأسماء الله الحسنى، ونسب الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه “عبدالله”، ومن جهة أمه “آمنة”، والقنوت والتحيات الطيبات، وأبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت؛ صوتك هذا أيها الولد من طبقة طفولية ما زال).

الثاني: يحكي لنا “حسونة” كيف رد أبوه على سيدة الأتوبيس حديثًا ولغة جسد؟!: (وكان يلوح بجريدته التي يحملها في يده، ليعلن على رؤوس الأشهاد أنه ليس بجاهل، رغم كونه فلاحًا، وهو يرد سؤالًا استنكاريًّا: “سؤالك مالوش معنى يا ست.. إحنا برضه أولاد مصر.. إحنا في عهد النور .. عهد الثورة يا هانم”).

مما سبق، يتضح للقارئ جليًّا أن “حسونة” نشأ في أسرة متعلمة محبة للثقافة، وقد اهتمت بتعليمه العلم وغرست بداخله حب الثقافة والاطلاع على كل ما هو مفيد لتنمية مهاراته العقلية، فحفظ الطفل أجزاءً من القرآن الكريم والأحاديث والسيرة النبوية من الصغر في كتَّاب الشيخ “إسماعيل”، فهذا يعني امتلاكه لناصية اللغة العربية، وبالتالي القراءة بفهم واستساغة للكتب والمجلات والصحف.

تناقش قصة “الهارب” لمحمد عبدالله الهادي إشكالية التعاطف مع السجين رغم أنه مجرم، والتي تسمى في علم النفس بــ “متلازمة ستوكهولهم”، (أو التعاطف مع الجلاد أو المجرم)، تعد متلازمة ستوكهولم حالة نفسية، تحدث عندما يتعرف ضحية الاعتداء على الشخص الذي يعتدي عليه، ويرتبط به بشكل إيجابي، لوحظت هذه المتلازمة عند الرهائن الذين وقعوا في حب خاطفيهم، قام مختصو علم النفس بتوسيع تعريف متلازمة ستوكهولم، ليشمل أي علاقة يرتبط فيها ضحايا سوء المعاملة ارتباطًا قويًّا ومخلصًا بمرتكبي الانتهاكات، عادةً ما يصاب بهذه الحالة السجناء، وأسرى الحرب، والأطفال الذين تعرضوا للإيذاء، وضحايا العنف المنزلي، وهنا بقصتنا “الهارب” البطل الراوي هو الطفل “حسونة”، فهل تعرض للإيذاء أم للعنف المنزلي، لذا هيَّا بنا نقرأ ما كتبه الكاتب على لسان “حسونة”: [وتسللت عيناك على البزة “الكاكي، للشرطي الضخم بوجهه الصارم، وأخذتك الدهشة المفاجئة ليده المدلاة جانبه، يبرز من معصمها القيد الحديدي، الذي يأسر معصمًا آخر لرجل آخر.. أين هو؟.. وعيناك تبحثان عنه لتجده قد انحط أرضًا، يفرقص في الطرقة التي تفصل المقاعد، فتوارى مثلك بين غابة السيقان المتزاحمة والمتراصة، رأيته شابًّا، يرتدي قميصا مهملًا وبنطلونًا، وشعره الفحمي يتهدل على جانب جبهته، وعندما التفت عيناه اللتان تبرقان تساؤلًا وفضولًا، وتتلصصان عليه، افترت شفتاه لك عن ابتسامة حزينة، ما لبثت أن استحالت لدهشة، وهو يمعن البصر في عنوان كتابك “الهارب” الذي في يدك، وتتسع ابتسامته لك بنوع من التواطؤ، واعتراك خجل ريفي، ارتبكت قليلًا، وشعور بالذنب يتملكك إزاء أسره، كأنه “بيرنز” وقد قفز من الكتاب أمامك].

وهنا وكما قرأنا وعلى لسان البطل المتعاطف مع هذا المجرم، قال محدثًا نفسه ومؤنِّبها بأنه يشعر بالذنب إزاء أسره، ورأى فيه ذاك السجين بطل الرواية التي يحملها، وكأنه كان يبحث عنها في الواقع المحيط به، وبمجرد أن رآها تجسدت أمامه الشخصية الخيالية، وقفزت من الكتاب إلى الأتوبيس المزدحم الذي يتجول داخل شوارع القاهرة العامرة.

ليس من الواضح تمامًا سبب حدوث متلازمة ستوكهولم، لكن يعتقد خبراء الصحة العقلية أنها إستراتيجية وقائية، وطريقة يتعامل بها ضحايا الاعتداء العاطفي والجسدي كشكل من أشكال البقاء، وآلية للتكيف تعتمد على مستوى الخوف، والتبعية، والصدمة في الموقف، وبالفعل دار حديث بين “حسونة” وذاك الأسير المعصوم اليد بالقيد الحديدي باللغة العيون الجسد.

وعلى أرض الواقع تقمَّص “حسونة” بالقصة شخصية الصغير برواية “الهارب”: [ما أشقى هذا المسكين الصغير الذي يجد لزامًا عليه أن يناضل في سبيل الخبز منذ نعومة أظافره، هو ذا مثل حي لقسوة المجتمع]، تنجم متلازمة ستوكهولم نتيجة التعرض للخوف الشديد، والتوتر والاكتئاب، لذا فقد يكون العلاج الأكثر فعالية لمرضى ستوكهولم هو العلاج النفسي، والحصول على التعاطف والدعم الأسري، قد يحاول الطبيب النفسي تعليم المريض تقنيات الصبر والتأقلم، وتعزيز الثقة بالنفس، لكن قد يأخذ العلاج وقتًا طويلًا، كما أن “حسونة” تجسد أما عينه “بيرنز” بشحمه ولحمه في شخص ذاك الشاب ذي الشعر الفحمي معصوم اليد داخل الأتوبيس، بل وأوجد عدة تشابات بينه كطفل وبين ذاك المتهم، وهي كالتالي:

      • يتوارى بين غابة السيقان المتزاحمة والمتراصة داخل الأتوبيس.
      • إحدى أيدي “حسونة” تحمل رواية “الهارب” واليد الأخرى يمسك بها أبيه، وكذلك ذاك الأسير يد حرة والأخرى معصومة في القيد الحديدي بإحدى أيدي الشرطي ذي الشارب الأصهب.
      • وفي نهاية القصة وعلى لسان حسونة: [ويد أبيك امتدت تسحبك بسرعة، ولا تعرف كيف ولماذا امتدت يدك إليه بالكتاب؟! فيتناوله منك بعينين لامعتين بالدمع، وكنت تشق الزحام محاذرًا خلف أبيك حتى لا تصطدم بأحد، والصوت الذي للحق بك من الخلف بالتأكيد كان صوت “بيرنز” يؤكد عليك: خُد بالك”]، جسيد كامل لشخصيات الرواية، ويكأنها خرجت من الكتاب المترجم للعربية لتمثيل مشاهد فعلية على الأرض المصرية.

تشمل أعراض “متلازمة ستوكهولم” كحالة نفسية:

      • إظهار الإعجاب والحب للخاطفين أو المجرمين.
      • مقاومة محاولات الإنقاذ من قبل الشرطة.
      • الدفاع عن المجرمين.
      • محاولة إرضاء الخاطفين.
      • رفض الشهادة ضد الخاطفين.
      • رفض الهرب من الخاطفين.

بقلم

الكاتب والباحث/ محمود سلامه الهايشه

لقراءة المزيد من المقالات اضغط هنا